بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
أما بعد , أحبتي الكرام :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا
أحب التصنيف , وبالذات تصنيف الناس , فأنا ممن يؤمن أن الحق باق , وأن
المسلمين وإن اختلفوا , فلا بد من التقارب , والإتفاق على النقاط المتفقة
, وترك ما اختلفوا فيه أو ما أشكل جانباً , فنحن (بحاجة) للتودد والتلطف ,
أكثر من حاجتنا للتحزّب والتعدد !! .
ولكن , هذه المرة سأخوض في
هذا الأمر , ولعله في خير - إن شاء الله - سائلاً ربي توفيقه وسداده ,
وسأتكلم بشأن العلماء - وليس لمثلي - أن يتكلم في هذا الشأن الرفيع . ولكن
عذري أنه جرت العادة من قديم العهد , أن المفضول قد ينفع الفاضل في شيء
يوفقه الله , ويجريه على لسانه , والمتأمل لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم
, ومن بعده من سيرة سلفنا الصالح , يدرك هذا الأمر جيداً .
فأقول مستعيناً بالله :
*** أصنـــاف النـــاس مع العلمــــاء ***
الصنف الأول :
محب
لهم مشفق عليهم . منتبه لزللهم يدعو لهم , يتحاشى الوقوع في أعراضهم .
يحاول جاهداً , عدم المساس بهم , لا كرامة لهم فقط , وإنما كرامة لمكانتهم
التي في قلوب الناس جميعاً . مطيعهم وعاصيهم . ويبذل النصيحة الواجبة لهم
, بأدب يليق بمكانتهم . سالكاً طرائقها الشرعية . ولا شك أن هذا مسلك صواب
لا غبار عليه .
الصنف الثاني :
مبالغ في حبهم , لا يرى خطأً
عليهم , أو تقصيراً في جانبهم , لذا لا يرى نصحهم أو بمعنى آخر , تبيين
الأمر وتجليته لهم . وفي المقابل يشنّع على من بذل النصيحة لهم . ويرى
الصواب دائماً في كل ما يقولون أو يسكتون عنه , وكأنهم معصومين من الزلل
والخطأ . ولا شك أن هذا مسلك خطأ كثير فساده .
الصنف الثالث :
صنف
تحامل على العلماء , وحملهم كل المسئولية , وبلغ به السيل الزبى , لشدّة
ما _ يرى - أنهم قصروا عن أداء ما كلفهم الله , وتقاعسوا عن بذل الوسع ,
في الصدع بالحق وعدم الخوف والملامة إلا من الله .
فهؤلاء أرخوا
العنان لأقلامهم , وفتحوا الأثغر لألسنتهم , ووسعوا دائرة سبهم , وتناولوا
أعراضهم في كل شاردة وواردة , وفي كل صغيرة وكبيرة , وحمّلوهم وزر الأمة
والوقوع في الغُمـّة !!
وأخذوا - هؤلاء - على متابعتهم وتتبعهم ومناقشة طرحهم , ورد كلامهم وتسفيه عقولهم , بل لا أبالغ إذا وصل الأمر إلى .... تكذيبهم .
وهذا
الصنف الأخيــر , محقٌ في غضبه , وزيادة ألمـــه , ولكنــــه , غير محق _
ثلاثـــــا _ في إسقاط مكانتهم ، شعر , أم لم يشعر , بسبب موقف أو إثنين
أو عشرة , وذلك لأسباب كثيرة , أختصرها في الآتي .
أولاً :
أن
هؤلاء , مجتهدون , وغيرهم كذلك , وكل يدين الله بما قال أو كتب , فلا داعي
للدخول في النوايا - ولا يعلمها إلا الله - وهو منزلق خطير , قد يهوي
بصاحبه إلى دركات جهنم , أعاذنا الله وإياكم منها .
وقد قال ابن
ناصر الدين : لحوم العلماء مسمومة , وعادة الله في هتك أعراض منتقصيهم
معلومة , ومن وقع فيهم بالثلب , ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .
ثانياً :
أننا
في تخطئتنا للغير , والتجاوز معهم حدود الأدب , فيه تزكية للمخَطِّيء
بطريق غير مباشر , وهذا منهج يخالف الآيات والنصوص النبوية , الحاثّة على
عدم تزكية النفس , وأن الله أعلم بمن أتقى .
وقد قال الحافظ بن رجب
: وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله , إذا تأدب في الخطاب وأحسن في
الرد والجواب , فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه .
ثالثاً :
أننا
وبالمداومة على هذا المسار , وتبني هذا المنهج , نقف صفاً واحداً مع أعداء
الدين , من رافضة , ومنافقين , وعلمانيين, وغيرهم , في خندق واحد !!
ولا
أدلّ على ذلك , لو سلك أصحاب هذا الصنف هذا المسلك , بدافع الغيرة , وسلك
غيرهم هذا المسلك بهدف الإطاحة بهذا الدين وإذلال أهله , لما تبين الدخن
في الدخلاء , بل يتفق الجميع وبغير علم من الأغيار , على رمي العلماء أهل
الفضل والإحسان , بقوس واحدة !! وهنا أمر جلل , يجب على كل غيور أن لا
يكون عوناً لعدوه المتربص , وإلا فقد وضع نفسه في موقف حرج , ومكان شبهة
هو في غنى عنه . وقد قال تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2)
وقد قال
الإمام الذهبي - رحمه الله - : ونحب السنة وأهلها ونحب العالم على ما فيه
من الإتباع والصفات الحميدة , ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ , وإنما
العبرة بكثرة المحاسن .
رابعاً :
أن كثيراً من الأحبة , لا يفرق
بين العالم الذي باع دينه بعرض من الدنيا , وبين العالم الضعيف في الصدع
بالحق أو بالجهاد أو غير ذلك , فكلا الصنفين عنده بدرجة واحدة , وهذا حكم
جائر , وبعيد عن العدل والله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ) (المائدة:Cool
خامساً :
جرأة كثير من الأحبة على
العلماء , والخوض في نياتهم , وتفسير أقوالهم وأفعالهم , بناء على فهم
المفسر أو الكاتب , وهنا مخالفة منهجية للباحث الناصح والمريد للحق .
ورحم
الله إبراهيم بن أدهم إذ يقول : كنا إذا رأينا الشاب يتكلم مع المشايخ في
المسجد أيسنا من كل خير عنده . أي يناظرهم ويجادلهم , فإذا كان اليهود
والنصارى والبوذيون يجلون ويقدرون علماءهم إلى درجة التقديس .
أفلا يليق بنا أن نحترم علماءنا وهم ورثة الأنبياء ؟ !!!
سادساً :
عدم
الواقعية في فهم النصوص الكثيرة , الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهي ثابتة صحيحة , لا تقبل التأويل ولا التحريف , في تغير الزمان , وكثرة
الفتن , حتى يصبح الحليم فيها حيراناً . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
: " لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه" وهذا الشر يكون في كل شيء .
فنحن
في دورة زمنية لا بد أن تأخذ مجراها , ليميز الله الخبيث من الطيب ,
ولحكمة أرادها سبحانه , حتى يأذن الله ويأتي بالفرج من عنده .
سابعاً :
مخالفة
المنهج الرباني , في سنة التغيير , وقد قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد:11) , لا شك أن العلماء عليهم دور كبير ومهم
في حياة الأمة , ولكن هل غيرنا نحن من أفعالنا وتصرفاتنا , بحيث نكون
قريبين من الله ؟ لا أظن عاقلاً يخالف أن حالنا جميعاً وللأسف في بعد عن
الله وعن مرضاته - إلا من رحم الله - وقليل ما هم , بل إننا وللأسف نسير
نحو السوء أكثر من الخير , وما على المستغرب من هذا الكلام , إلا النظر
لحال الناس اليوم نساءً ورجالاً , وكيف تعلقت القلوب بالماديات والمحسوسات
, ليدرك صحة هذا الكلام .
ثامناً :
إلقاء اللوم على العلماء
وحدهم فيما يجري للأمة , هو نوع من الهروب الغريب , الذي نسلكه لنلقي عن
عواتقنا تحمل المسئولية في القيام بما أوجب الله علينا جميعاً , وكل بحسبه
ووسعه .
تاسعاً :
إن مسلك , تلمس العذر من المسلم لأخيه المسلم
, مسلك إسلامي , ومطلب شرعي , يثاب عليه العبد , ولا شك أن نصيب العلماء
من هذا الواجب أكبر وأوسع , فما بالنا اليوم نسينا المنهج الصحيح .
عاشراً :
إن
وقوع العالم في الخطأ , لا يعني ذلك جواز غمزه ولمزه, بل يسلك معه مسلك
الناصح المشفق إن كان صادقاً في توجهه , ويبين له خطأه , والعالم أكثر
المحبين للنقاش إذا كان بدليل شرعي , أما إثارة الغير عليه , وتأليب الناس
عليه , فيه خطر عظيم على المرء ودينه . فكيف بمن يعمم الخطأ على العلماء
جميعاً , ويقحم نفسه في دهاليز مظلمة .
والخطأ طبيعة بشرية , ولكن
من الناس يكون خطؤه قليلاً أو غير مقصود بالنسبة لصوابه , كما قال ابن
عبدالبر : " لا يسلم العالم من الخطأ فمن أخطأ قليلاً وأصاب كثيراً فهو
عالم , ومن أصاب قليلاً وأخطأ كثيراً فهو جاهل " .
وكما قال سفيان
الثوري : " ليس يكاد يفلت من الغلط أحد , إذا كان الغالب على الرجل الحفظ
فهو حافظ وإن غلط , وإن كان الغالب عليه الغلط ترك " .
وهذا الصنف
هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أقيلوا ذوي الهيئات
عثراتهم إلا الحدود " . وقد قال الشافعي : ذوو الهيئات الذين ليسوا يعرفون
بالشر فيزل أحدهم الزلة .
قبل الختــام :
يجب أن نحسن الظن
بالعلماء , وأن لا نبخسهم حقهم , فلا نعلم لعل الله أراد لنا ولهم بهذه
الإبتلاءات خيراً , في أن تتوحد الصفوف , ويتميز الخبيث من الطيب , وتتقوى
العزائم , ويتهييء الجميع علماء وعامة , لأحداث جسام قادمة , ولازلنا نؤمل
فيهم خيراً - بإذن الله - .
فلنصبر ولنلزم الغرز , ولنعضّ على المنهج الصحيح .
وأخيــــراً , لعلي أختم بهذا الأثر الصحيح , متستخرجاً منه بعض الفوائد :
قال البخاري - رحمه الله - ( باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون)
حدثنا
عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل قال : قال عبدالله
(ابن مسعود) رضي الله عنه : " لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريت
ما أرد عليه , فقال :
أرأيت رجلاً مُؤدِياً (أي أدى ما عليه)
نشيطاً يخرج مع أمرائنا في المغازي , فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها (أي
يأمرهم بأشياء لا تطاق) , فقلت له : والله لا أدري ما أقول لك , إلا أنا
كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم , فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة
حتى نفعله , وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله . وإذا شكّ في نفسه شيء
سأل رجلاً فشفاه منه , وأوشك أن لا تجدوه . والذي لا إله إلا هو , ما أذكر
ما غبر من الدنيا إلا كالثغب شُرب صفوه , وبقي كدره " .
من الفوائـــــــــد :
أولاً
: عدم علم ابن مسعود الصحابي العالم الجليل رضي الله عنه , وعدم إفتاء من
سأله . بمعنى أن العالم ولو كان بلغ من العلم ما بلغ قد تشكل عليه مسألة
أو أكثر من مسائل العلم . فيتوقف . ولا يعتبر ذلك خوفاً أو مداهنة أو غير
ذلك .
ثانياً : أن الإشكال قد يحصل للعالم وفي أي وقت , ولا يلزم أن يفتي في كل مسألة .
ثالثاً : حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم , وفعل ما يأمرهم به .
رابعاً : إن الخير والديمومة عليه , تكون في تقوى الله , وترك ما يغضبه سبحانه .
خامساً
: إن مجرد الشك في أمر من أمور الدين يوجب الرجوع إلى أهل العلم والراسخين
فيه , وسؤالهم , حتى يزول الإشكال . ويسير المرء على بينة من أمره .
سادساً
: في قوله : وأشك أن لا تجدوه . فائدة عظيمة , وهي ما يخص موضوعي هذا ,
وهي أنه إذا كان يوشك أن لا يوجد في القرن الأول العالم الذي إذا سؤل أشفى
, وهو أفضل القرون , فكيف بزماننا هذا .. القرن الخامس عشر !! وقد كثرت
الفتن حتى أصبح الحليم فيها حيراناً !! فلا شك أن علماء هذا القرن , أقل
بكثير من علماء القرن الأول . وبالتالي يجب أن نفهم واقعنا اليوم فهما
صحيحاً متأنياً . وأن نتلمس الأعذار تلو الأعذار لعلمائنا لهول خطب ما
يحصل اليوم من فتن متتابعة , كقطع الليل المظلم .